MENU





 

.

.

لم نتمن العودة في ظروف قاهرة

.

.

الحرب الداخلية التي تجري في سوريا منذ أكثر من عام ، وما تخلفه من مآس انسانية ، ودمار ، وخراب هو نتيجة للسياسة القذرة التي ينتجها القادة السياسيون ، يؤكد ذلك تشرد الكثيرين من أهالي سوريا ، وتحولهم إلى لاجئين في بلدان مختلفة ، وآلاف القتلى والجرحى من المواطنين الأبرياء . يترك الناس ديارهم ، وبيوتهم ، وأملاكهم للخلاص

.

من جحيم حرب مجنونة تحرق اليابس والأخضر ، وتقتل الصغار والكبار ، والرجال والنساء ، ودون تمييز مابين المجرم والبريء ، ومن بين من وقع في هذه النازلة أشقاؤنا السوريون ، واخواننا ، وأخواتنا الشراكسة ، وقد هب الشراكسة في الجمهوريات الشركسية ( جمهورية قباردينا بلقاريا ، وجمهورية الأديغي ، وجمهورية القرشاي شرجس ) راغبين في مد يد العون والمساعدة إليهم ، والوقوف إلى جانبهم في هذه المحنة . وأخذوا يوجهون إليهم بطاقات الدعوة ، ويفكرون في كيفية إعادتهم إلى أرض الوطن آمنين سالمين ، وتأمين المأوى ، والعمل لهم وذلك حسب الظروف الممكنة والمتاحة . وقد سألنا عن أحوال وأوضاع القادمين من سوريا السيد عسكر غوتشل رئيس مركز تطبيع حياة العائدين بأرض الوطن فقال : دخل الأديغي خلال الأيام القليلة الماضية مئة وخمسون عائدا ، وبدأ الصندوق المالي عمله، ونشاطه ، والذي قامت الجمعية الشركسية بتشكيله من قبل ، وتقول إدارة الصندوق أنهم يقومون باستئجار شقق مفروشة للأسر العائدة ، ويدفعون لهم أجورها ، ولمدة ثلاثة أشهر ، كما يقومون باستقبالهم منذ لحظة وصولهم إلى المطار ، وقام زعيم الجمهورية بتشكيل لجنة وضع رئيسا لها السيد مراد قومبل رئيس مجلس الوزراء بجمهورية الأديغي، وتتألف اللجنة من عدد من السادة الوزراء ، ومن رؤساء بعض اللجان الوزارية ، وأكد رئيس اللجنةعلى جميع الأعضاء تقديم الدعم اللازم للعائدين من سوريا ، وذلك كل حسب الجهة أو الوزارة التي يقوم بإدارتها . كما يقوم الصندوق بتقديم مبلغ ألف روبل شهريا ، ولكل طالب سوري يدرس في الجامعة ، والذي يبلغ عددهم واحدا وأريعين طالبا كإعانة شهرية ، وذلك إضافة لما تقدمه إليهم الجامعة من مكافآت شهرية ، ويرغب المسؤولون عن الصندوق زيادة المبلغ المقدم إلى ثلاثة آلاف روبل ، وهذا يتوقف على الإعانات والتبرعات التي تقدم إلى الصندوق من قبل الناس . وقامت اللجنة الوزارية بإجراء كافة الفحوص والتحاليل اللازمة ، والصور الشعاعية اللزمة مجانا ، والتي يبلغ كلفتها من ثلاثة آلاف وحتى ستة آلاف روبل لكل شخص ، وقامت حافلة وزارية بأخذهم إلى أربعة مستوصفات موجودة في أماكن متنفرقة بمدينة مايكوب ، كما جهز مركز تطبيع حياة العائدين كافة الأرواق اللازمة لهم للحصول على الإقامة المؤقتة ، وبالتعاون مع جمعية العائدين إلى أرض الوطن . وقال السيد أسعد غوتشل : إن الذين يريدون العودة إلى الوطن كثيرون ، إلا أن ما يعوق عودتهم عدم قدرتهم على تجهيز الأوراق المطلوبة منهم ، والمركز يقوم بمل ما عليه من مهام ، وضمن طاقاته وقدراته .

ويضيف قائلا : إننا نريد أن نخفف من ثقل الأعباء الواقعة على كاهلهم ، ونقاسمهم همومهم ، وأحزانهم ، وسنعمل على تأمين عمل لهم بعد الإنتهاء من تجهيز أوراقهم ، وذلك كل حسب مهمنه وعمله ، واختصاصه . وسنوزع عليهم أراض بقرية مف حابله لمن يود أن يقوم ببناء بيت له فيها ، وخصصنا لذلك ماحة تبلغ تسعا وثمانين هيكتارا ، وقمنا بتوزيع أراض لثمانية عشر أسرة سورية في هذه القرية . بعد أن تحدثنا مع السيد أسد غوتشل التقسنا من عدد من الأسر الاسورية التي عادت مؤخرا من سورية لمعرفة الصعوبات التي واجهوها ، والمتعب التي لاقوها قبل ، وبعد عودتهم إلى أرض الوطن .
الأرض التي نعيش عليها هي لجميع الأديغيين

اجتمعنا أولا مع أسرة نعيم تغوج ، وقد أنجبت له زوجته هيله ثلاث فتيات ، الكبرى راية متزوجة ، وعندها طفلة صغيرة ، أما سيبس ، وماريانا فهما توأمتان ، وتعملان مدرستين ، وكانت الأسرة تعيش في منطقة قدسيا بدمشق ، والتي يقيم فيها أكثر من ثلاثة آلاف شركسي ، وما أثار عجبي أن نعيم ، وزوجته يتقنان اللغة الشركسية ، وبصورة جيدة ، ولما وجهت إليهم سؤالا عن ذلك أجابوا قائلين : ألسنا شراكسة ؟ ولم لا نحافظ على لغتنا الأم ؟ ! ولقد دفعتني إجابتهم وعلى هذا النحو إلى التفكير والتساؤل كيف استطاع هؤلاء المهجرين ومنذ أكثر من قرن المحافظة على لغتهم القومية ، وفي مجتمع لايسمح لهم بتعلم لغتهم ، وهم فيه أقلية صغيرة . كل ذلك جعلني أعتبرها فيهم سمة حسنة يستحقون عليها كل التقدير والإكبار ، ونحن نعيش في جمهوريتنا ، وعلى أرضنا ، ونتحدث ، ونتعلم لغتنا ، ونقرأ ونكتب بها ، ولدينا كل العوامل والأسباب التي تتيح لنا تعلمها ، وهناك من لا يستطيع التحدث بها لا بل هناك من لا يستطيع أن يفهم مايقال له باللغة الشركسية . وقال السيد نعيم : جئت إلى الاديغي خلال هذا العام حيث كنت ضمن الوفد الذي جاء من سوريا أيام الشتاء الماضي ، وزرنا مايكوب ، ونالتشيك ، والتشركيس وبحثنا أمر عودة مئة وخمسين شخصا يرغبون في العودة إلى الوطن ، وكنا قد بعثنا أسماءهم إلى موسكو ، وبعد ذلك أرسلنا أسماءهم إلى الجمهوريات الثلاثة في القفقاس . كنت سابقا عضوا في الجمعية الشركسية ، وجئنا إلى الاديغي لنرى صورة الواقع ، ولابد لنا من أن نقدم الشكر إلى زعيم جمهورية قباردينا بلقاريا السيد أرسين قانقو الذي أحسن استقبالنا ، وقدم إلينا كل الدعم والمساعدة ، كما زرنا القرى الشركسية ، وتعرفنا على حياة الناس فيها ، كما استقبلنا زعيم جمهورية القرشاي شرجس ، وأبدى استعداده التام لمساعدة العائدين من سوريا ، وبعد ذلك جئنا إلى مدينة مايكوب ، والتقينا بوزير الثقافة السيد غازي تشمشو ، ورحب بنا ، ونحن ممتنون وراضون عنه ، والتقينا بنائب رئيس برلمان جمهورية الأديغي السيد محمد آشَه ْالذي سهل لنا مهمتنا ، ولدى عودتنا إلى سوريا نقلنا إلى أشقائنا في سوريا كل ما جرى ، ونقلنا إليهم أنكم بانتظار عودتنا ، ونحن وإن وجدنا بعض الصعوبات في تجهيز الأوراق المطلوبة ، وفي الحصول على تأشيرات الدخول إلى تمكنا من العودة مع المجموعة الأولى . يعمل السيد نعيم بناء ، أما زوجته هيله فهي ربة منزل ، وما أسعدني وجود عائلات من عشيرة التغوج في الأديغي ، وقد دعاني إلى بيته السيد زاد الدين تغوج ، وأطلعني على أخبار العائلة ، وإن شاء الله سأتعرف على باقي الأسر الأخرى من عائلة التغوج ، إن الأرض التي نعيش عليها الآن هي لجميع الأديغيين ، ويتوجب أن يقدم للعائدين أراض للبناء والزراعة ، وهي كثيرة إلا أن روسيا فيما يبدو لاترغب في عودتنا ، ولكنها تسمح للأكراد وغيرهم بالاقامة والعيش في الأديغي ، ونحن يتوجب علينا أن نتعاون ، ويساعد بعضنا البعض الآخر ، ألسنا شراكسة ؟ هذا ما يجرحنا ويؤلمنا . ويتابع السيد نعيم قائلا : لقد تركنا كل شيء في سوريا دورنا ، وأملاكنا ، وأراضينا ، وخرجنا بثيابنا ، ودون أي شيء آخر . الحرب لاترحم أحدا ، وهي تشتد يوما بعد آخر ، والحياة تصبح أكثر صعوبة في سوريا لا بل صارت مخيفة ، فصهري دمر بيته ، وسرق كل ماكان معه لما أوقفوا سيارته ، وتعرض للضرب والإهانة ، وبعد ذلك قرر الخروج من سوريا ، والعودة إلى الوطن الأم . ويقول السيد نعيم : الحمد لله نحن الآن بخير وأمان وسلام ، وأشكر جميع من قدموا إلينا المساعدة ، ولدي الكثير من الأعمال التي أفكر في تحقيقها ، ولكن يجب أولا أن نحصل على الإقامة ، وبعد ذلك سأبدأ العمل . أما زياد صوقار وزوجته رانيا فهم من قرية تترحابله بدمشق ، وهم أسرة صغيرة ، ولدبهم ابنة صغيرة عمرها ثلاث سنوات ، واسمها تيماف ، وهو صهر نعيم ، وكان يعمل إمام مسجد ، وقال : أنه قد جاء إلى الأديغي ولأول مرة ، وكان يرغب في رؤية أرض الآباء والأجداد منذ زمن بعيد ، ولكن جئنا وفي مثل هذه الظروف الصعبة ، ولم نكن نرغب بعودة كهذه ، فقد تركنا هناك أهلنا وأقرباءنا ، وديارنا ، وأملاكنا ، وإن من يرغب في العودة كثيرون إلا أن العودة صعبة جدا في مثل هذه الظروف ، لأن خروجك من البيت دون إذن أو موافقة قد يعرض حياتك للخطر ، وما يمكن أن يحدث لك شيء مجهول ، فكل شيء محتمل ومتوقع . وقال زياد أيضا : كنا نعيش سابقا في الجولان بسعادة واطمئنان كان وقع الإحتلال الاسرائيلي ، ثم اضطررنا للرحيل إلى قرية تترحابله ، وها نحن اليوم نضطر للرحيل مرة أخرى ، ونتيجة لصعوبة تجهيز الأوراق اللازمة لايستطيع الكثيرون العودة الآن ، وقال أيضا : إن والده قد توفي ، وأن أمه قد عادت معهم ، إلا أنها قد مرضت عندما وصلوا إلى موسكو ، وبقيت هناك ريثما تتماثل للشفاء ، أما أخته ، فقد بقيت في سوريا ، وهو يخاف على حياتها ، وقلق عليها ، وقال : يعرفني الكثيرون في سوريا باعتباري إماما ، وكنت آخذ الناس إلى العمرة في سنة أربع أو خمس مرات ، وكنت أعلمهم مناسك الحج والعمرة ، وكنت أعلم الأطفال قراءة القرآن في القرى الشركسية وأعقد القران . ويضيف قائلا : لقد زارسوريا كل من السيد عسكر شحلاخو ، والسيد محي الدين تشرمت واطلعوا على أوضاعنا وأحوالنا ، ونحن ممتنون وراضون عنهم كل الرضا . لكننا قلقون على أهلنا وأقربائنا في سوريا ، وهم دائما في مخيلتنا ، وفي قلوبنا ، ونفكر في كيفية تقديم العون والمساعدة إليهم .

قلقون على مصيرهم
عندما زرنا عائلة فكرت در استقبلتنا ببشاشة وترحاب ، إلا أن الحزن كان يخيم على وجوههم رغم ابتساماتهم ، وهم وكما قالوا لنا : كانوا يعيشون في دمشق ، وعندهم ثلاثة شبان ، وابنة واحدة ، البنتان قد تزوجتا ، ولديهم أسر وأطفال ، ولم يستطيعوا الخروج معنا لأن أوراقهم لم تكن جاهزة بعد ، وقلقون وخائفون عليهم من أن يصابوا بأي أذى ضرر . يبلغ السيد فكرت التاسعة والستين من عمره ، قبل عشرين عاما كان قد زار القفقاس ممثلا للجمعية الشركسية بدمشق ، وله أقرباء كثيرونفي نالتشيك والتشيركيس ، وتبين له أن جده ، وجد رجل الأعمال المشهور السيد فياتشيسلاف درأخوين ، وهو يتقن اللهجتين القبردينية والأبزاخية ، وبصورة جيدة ، وقد قرر الإقامة في مايكوب لأن ابنته تعيش فيها الآن ، والسيد فكرت مدرس لمادة الجغرافيا ، وقد أحيل إلى التقاعد ، وكان عضوا في الجمعية الشركسية ، أما زوجته نوال فهي ربة منزل ، تعني بشؤون الأطفال وتربيتهم ، والأسرة تتكلم اللغة الشركسية ، وبصورة جيدة ، وكذلك الأ ولاد . تقول السيدة نوال : بقيت أمي في دمشق ، وابنتاي ، وأسرتهما ، وأهلي وأقربائي ، وأوراقهم جاهزة ويريدون العودة إلا أن السفارة لا تمنحهم تأشيرات الدخول . كانت أمي بعيش بالقرب مني ، ورغم ذلك لم أستطع أن أودعها ، وخرجت دون أن أراها ، ولذلك فأنا حزينة جدا ، وقلقة عليها ، خرجنا من البيت بسرعة لأننا سمعنا أن الجيش سيقطع الطرقات ، وسيضع الحواجز ، فجئنا ليلا إلى منزل ابنتي ، وفي اليوم الثاني ذهبنا إلى المطار ، وطرنا إلى القفقاس . الخطر في كل مكان ، ولا يوجد مكان آمن ، ولا تعرف أين ؟ ومتى سيقع اشتباك ؟ إن خرج أحد من البيت ينتابك القلق حتى يعود إليه بسلام ، والآن نحن قلقون على حياة الذين هم الآن في سوريا ، ابنتي الكبرى ، ولها طفلان ، والثانية تزوجت منذ أمد قريب ، ونحن نتحدث معهم هاتفيا ، وعن طريق الإنترنيت ، أوضاعهم سيئة ، والأحداث تتصاعد ، والعنف يشتد في كل يوم ، والمخاوف تزداد . لقد تركنا كل شيء بيتنا ، وأرضنا ، وسيارتنا ، وكل ماجمعناه طوال حياتنا ، ولم يكن لنا متسع من الوقت لبيع ممتلكاتنا ، كما أن الأسعار قد تهاوت ، وحركة البيع والشراء قد تجمدت ، والبيوت التي تصبح خاوية عرضة للسرقة والنهب ، وكذلك تحرق البيوت والسيارات ، وهناك من يحاول جر الشراكسة إلى خضم الأحداث ، وهم لايرغبون في المشاركة في حرب الضحايا هم أبناء البلد الواحد . عندما أصبحت أوراقنا جاهزة لم أشعر بالفرح ، كنت أريد أن تصبح أوراق ابنتي جاهزتان قبل أوراقنا ، ولكن هذا ما حصل . كانت دمشق قبل الاحداث مدينة جميلة ، وآمنة ، وإن تجولت فيها حتى أواخر الليل لايعترضك أحد ، أما الآن فالأمر قد اختلف كليا الأخطار محدقة بك ليل نهار ، والإتصالات مقطوعة ، ومراقبة ، وتدعو السيدة نوال الله سبحانه وتعالى لسوريا ، ولشعبها ، وللشراكسة فيها أن يحفظهم ويعيد إليها الأمان والسلام . ومرة ثانية نعبر عن تعاطفنا ، ووقوفنا إلى جانب اخوتنا وأخواتنا الشراكسة في سوريا يؤكد ذلك المنحى السياسي الذي انتهجته الجمهوريات الشركسية الثلاثة ، وإن هذه المأساة قد شدت أزر الشراكسة ، ووحدتهم ، وبينت لهم ضرورة أن يحموا أنفسهم، ويحافظوا عليها من المخاطر ، وليحيا شعبنا بأمان وسلام بعيدا عن كل أذى قوى الشر والبغي والعدوان .

ــ الكاتبة الصحفية : فاطمة تشارة .
ــ الترجمة إلى العربية : محمد ماهر إسلام .

.

.