MENU





 

.

.

االفرصة التاريخية والخيار ما بين الحوار والمقاومة
05/08/2009

 سينار يشك

.

.

قرابة المائة والخمسون عاما مرت على انتهاء الحرب الروسية الشركسية وهجرة الغالبية العظمى من الشراكسة وتششتتهم خارج وطنهم الام وتحويل وطنهم الى كنتونات سياسة منتقصة السيادة ومتباعدة وليس لها ذكر أو هوية ثابتة على الخارطة السياسية أو الثقافية لشعوب العالم. منذ ذلك الحين ولم يتوفر للشراكسة أي فرصة حقيقية لتغيير واقعهم وإعادة بناء هويتهم السياسية والثقافية. قد يكون الامر ناجما عن طبيعة الظروف الدولية والاقليمية التي احاطت بمنطقة القوقاز , وقد يعزى ايضا الى حالة الضعف والتشرذم واللاوعي التي عاشها الشراكسة  طوال تلك الفترة. ولكن مما لا شك فيه أن الفترة الحالية وما يتخللها من ظروف داخلية واقليمية ودولية توفر للشراكسة فرصة تاريخية لم تتوفر سابقا لأعادة بناء الأمة الشركسية وأعادتها على الخارطة السياسية والثقافية لشعوب العالم. ولكن السؤال الأهم . هل الشراكسة أنفسهم مدركون لهذه المتغيرات التي تحيط بهم وهل لديهم الوعي والادراك السياسي والقدرة الفكرية الكافية لبناء استراتيحية متكاملة للإستفادة من هذه المتغيرات بما يخدم أهدافهم القومية؟
 
مما لا شك فيه أن المتغيرات والأحداث الاخيرة التي عصفت بمنطقة القوقاز (إنهيار الاتحاد السوفييتي , الحرب الشيشانية الاولى والثانية , حرب جورجيا وأبخازيا الأولى والاخيرة ) أعادت نوعا من الحياة والأمل للقضية الشركسية داخل الشراكسة انفسهم سواء في الوطن الأم او المهجر, ولكنها بنفس الوقت فتحت أبوابا من الاجتهادات حول الاستراتيجة التي يجب على الشراكسة إتباعها لحل قضاياهم. وتتمحور هذه الاستراتيجيات حول تيارين فكريين متضادين الاول تيار المواجهة بكافة أشكالها مع روسيا والثاني يمكن وصفه بالمعتدل أو البراغماتي والذي يدعو الى الحوار مع ممارسة نوع من الضغط الايجابي على روسيا الغير مؤدي الى المواجهة.

 أما تيار المواجهة فينقسم الى قسمين رئيسيين الأول ذو أيدلوجية إسلامية شمولية متطرفة ومتأثرة بالمقاومة الشيشانية الأسلامية الجهادية بشكل خاص والحركات الاسلامية الجهادية في مختلف الدول الاسلامية. وهذا التيار مثله كمثل باقي التيارات الاسلامية الجهادية المتطرفة لا يحمل مشروع دولة محدد المعالم بل يستند الى شعارات براقة وفضفاضة كتطبيق الشريعة الاسلامية, والامر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغيرها من الشعارات الفضفاضة من غير تحديد آلية واقعية أو عملية لتطبيقها, والصراع مع الروس هو صراع ديني عقائدي أزلي بين أمة الاسلام وأمة الكفر. وما يجدر بالذكر أن التيار الاسلامي المتشدد هو في الغالب تيار داخلي ليس له إمتداد فعلي بين شراكسة المهجر , والاتصال الخارجي الغالب يتم من خلال شبكة الاتصالات والعلاقات الخارجية للمقاومة الاسلامية الشيشانية. أما تيار المواجهة الثاني يمكن وصفه بالتيار القومي المتشدد والذي ينادي بتحرير بلاد الشراكسة بحدودها التاريخية واستعادة الحق المنتزع من روسيا من خلال التحالف مع التيارات الدولية الغربية اليمينية المعادية لروسيا والمشككة في نزعاتها التوسعية والمنادية بتقليص نفوذها في المنطقة. ويضم هذا التيار تحت جناحه جماعات متفرقة من شراكسة الداخل وأفراد وجماعات من شراكسة المهجر وخاصة تركيا , أوروبا , الولايات المتحدة, والاردن. وبالرغم من إفتقار هذه التيار للقاعدة الشعبية وإعتماده على نخب فردية, إلا أنه يلقى صدى وخاصة في الدول الغربية نتيجة دعم المؤسسات الغربية له سواء على المستوى الإعلامي أو الاكاديمي.    بالرغم من إختلاف الايدلوجية الفكرية لدى التيارين المتشددين,  ألا أن الرد الروسي على هذه الحركات – الاسلامية المتطرفة بشكل خاص -  يتم إستثماره وتسييسه إعلاميا وخاصة من التيار القومي المتشدد لحشد الرأي العالمي ضد روسيا وإنتهاكاتها لحقوق الانسان. ويستغل التيار القومي المتشدد أيضا قضايا الفساد الحكومي والاقتصادي وتأثيراته السلبية على إقتصاديات جمهوريات شمال القفقاس والسياسات الروسية المتعلقة بأمنها القومي ضد الحركات الانفصالية للتشكيك بالنوايا الروسية في طمس حقوق الاقليات العرقية ومنهم الشراكسة.

بالطبع روسيا تعاني من مشاكل مقلقة فيما يتعلق بسياساتها الاقتصادية الداخلية , الفساد الحكومي والبيروقراطية , مشاكل متعلقة بالحريات المدنية وحقوق الانسان , بالاضافة الى حقوق الاقليات وغيرها من القضايا على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلا أن التيار القومي المتشدد لا يتعامل مع هذه القضايا من منظور إصلاح داخلي وإنما يستثمر هذه القضايا دوليا عبر المؤتمرات والإعلام الغربي في محاولة تدعيم شرعية المطالبة بالانفصال عن روسيا. هذه السياسة تضع التيار المتشدد الشركسي فريسة في يد تيار الصقور في الدول الغربية المنادي بإحتواء روسيا والحد من نفوذها في جنوب القفقاس واكرانيا لتأمين إمدادات الطاقة الى الغرب من حوض بحر قزوين. بالاضافة الى ان هذه السياسات للتيار المتشدد تضع الشراكسة في المواجهة وموضع الشك من قبل روسيا وبالتالي تقوض كافة مساعي المطالبة بحقوق الشعب الشركسي وخاصة حق العودة لشركس الشتات.
بالطبع هذا المسار الذي ينتهجه التيار المتشدد ليس بجديد وقد تم إستغلاله سابقا وتوظيفه من قبل فرنسا وإنجلترا والامبراطورية العثمانية إبان الحرب الروسية القفقاسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي لعب كأحد العوامل الأساسية في الحد من توسع الامبراطورية الروسية الى الجنوب بإتجاه الدولة العثمانية والمهدد لخطوط التجارة البريطانية الى الهند بالإضافة الى إنتزاع تنازلات روسية في حدودها الغربية في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وأماكن تواجد ألاسطول الروسي على سواحل البحر الاسود. ويمكن إضافة عامل آخر في فترة لاحقة بإخراج الامبراطورية الروسية من المخطط المستقبلي لفرنسا وأنجلترا في تقسيم تركة الامبراطورية العثمانية. وفي مقابل ذلك حصلت روسيا على ضوء أخضر واليد الطولى في شمال القفقاس. ولم تنتهي المأساة الى هذا الحد , فقد إستغلت الامبراطورية العثمانية إنكسار الشراكسة في حربهم مع الروس بوضع بروبوغاندا دينية وقومية لإستقدام الشراكسة ومن غير تحضير كافي لتدعيم انكساراتها العسكرية في البلقان ومصالح أخرى ثانوية كحماية خط الحجاز من الغارات البدوية , إستصلاح الأراضي الزراعية لسد حاجاتها الغذائية , وتحصيل الضرائب من القرى والفلاحين في بلاد الشام.

 إن الحرب الجورجية الأبخازية الأخيرة ووقوف الغرب المنحاز بالكامل الى جورجيا وسياسات ساكاشفيلي الخرقاء لحل الازمة لهو خير دليل لمدى الدعم التي تستطيع الدول الغربية أن تقدمه للقضية الشركسية والذي اتضح من خلاله أن شمال القفقاس ليس موضوع تسوية ما بين روسيا والغرب. فالغرب يدرك وبحكم إدراكه للأمن القومي الروسي أن شمال القفقاس لا يمكن ان يكون موضوع تسويه بينه وبين روسيا ,  وانما يطمح أن يكون منطقة عازله  للنفوذ الروسي عن جنوب القفقاس وورقة يمكن الضغط من خلالها على روسيا لتقديم تنازلات في جنوب القفقاس. ولن يكون هذا الأمر إلا من خلال خلق حالة من عدم اللإستقرار الأمني في شمال القفقاس من خلال إستثارة النزعات القومية الانفصالية والدينية المتطرفة لإشغال روسيا في حروب داخلية في مناطقها الجنوبية وبالتالي عزلها عن جنوب القفقاس.  بالطبع هتالك تيار آخر في العالم الغربي ينادي بإدماج روسيا والتعاون معها إلا أنه ليس بعد التيار المؤثر في السياسة الغربية الحالية والتي لا زالت تدار بعقلية الحرب الباردة وبمفهوم الصراع الجيوبوليتيكي وسياسة الاحتواء.

أما التيار المعتدل فهو التيار المشكل للخط العام للشراكسة وله مركزين ثقل أحدهما في تركيا واللآخر في الوطن الأم. وقد بدأ هذا التيار بالتشكل في أوائل الستينات في الأردن وأواخر الستينات في تركيا مرتكزا على فكرة العودة الى الوطن الام. لم تتيح التركيبة السياسية – الاجتماعية في الاردن لهذا التيار الفكري بالتحول الى آلية تطبيق أو الى مؤسسات قادرة على ترجمة هذا الفكر الى برامج واسترتيجيات تتصل مع الواقع الفعلي للوطن الام. وإقتصر عمل الموسسات الشركسية في الاردن على الانشطة الثقافية المحدودة والاجتماعية المحلية والموجهة بالغالب للعناية بمصالح الجالية الشركسية مع الإكتفاء بإرتياط عاطفي ووجداني محدود مع الوطن الام لا يتعامل مع قضاياه الحاضرة. أما في تركيا وبالرغم من الضغوط التي تعرض لها الشراكسة وغيرهم من الاقليات العرقية من سياسة التتريك إلا أن التركيبة السياسية – الاجتماعية في تركيا والمناخ الفكري فيها أدي الى تطور التيار الفكري الشركسي وبخطى متسارعة ومنظمة الى مؤسسات إجتماعية قادرة على ترجمة فكر هذه التيار القومي الشركسي الى برامج واقعية تعالج مختلف القضايا الشركسية المحلية والمرتبطة بالوطن الام. وما بدأ ملاحظته مؤخرا ان هذه المؤسسات الشركسية قد بدأت تأخذ بعدا سياسيا من خلال إنشاء علاقات مباشرة مع الجمهوريات الشركسية في القفقاس والتفاعل مع قضاياه على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والاكاديمية والاعلامية. ويتعامل هذا التيار مع القضايا الشركسية بسياسة واقعية تراعي خصوصيات الوطن الام وقضاياه على الارض ومن منظور الإصلاح الداخلي وتدفع الى التغيير من خلال الضغط والانتقاد الايجابي دون اللجوء الى المواجهة مع روسيا.

إذا ما نظرنا الى الموقف الروسي وسياساته في شمال القفقاس بنظرة متجردة من إرث الماضي , وتنظر بواقعية الى المنظور الروسي الى الأمن القومي وما ينظر له من تهديدات خارجية على مناطق نفوذه وأمنه الداخلي وخاصة في حدود روسيا الجنوبية والغربية , نرى أن روسيا أعطت أكثر من مؤشر للتعامل الايجابي مع قضايا شعوب شمال القفقاس والحفاظ على الاستقرار الامني في المنطقة والذي يصب في مصلحتها القومية. فروسيا تدرك تماما طبيعة التنوع العرقي داخل الاتحاد الروسي وتدرك إنه ليس بإستطاعتها التعامل مع هذه القضايا بمفهوم عسكري , وأنه لا بد من الاستماع والاستجابة لمطالب الاقليات العرقية مع المحافظة على الوحدة الجغرافية والسياسية للاتحاد الروسي. أما ما يخص الشراكسة سواء في الوطن الام او المهجر فالمصلحة العامة تقتضي بالمصالحة التاريخية مع موسكو والحوار على كافة القضايا الحاضرة العالقة سواء فيما يخص القضايا في الوطن الام أو حقوق ومطالب شراكسة المهجر.

.

.

aec@circassiancanada.com

.

.

.